<- Back

من قلب الحدث: كاميرات مصورات فلسطينيات بمواجهة المخرز

دعاء شاهين - غزة

التصوير الفوتوغرافي في الواقع الفلسطيني أكثر من مجرد وسيلة لالتقاط صور بصرية جمالية، بل هو أداة أساسية في نضالهم ضد الاحتلال الإسرائيلي. فالأرشيف الفلسطيني يحتضن مجموعة من اللقطات الفوتوغرافية المتنوعة التي تروي قصصاً مؤثرة عن التجارب والتحديات التي واجهها الفلسطينيون على مر العقود، بدءًا من نكبة عام 1948 ومروراً بكل مراحل تاريخهم.

الإرث التاريخي لكريمة عبود 

من بين المساهمين البارزين في هذا الأرشيف، نجد عدسة المصورة "كريمة عبود" ابنة مدينة الناصرة، التي أضافت قيمة كبيرة للتراث الفوتوغرافي الفلسطيني بوصفها أول مصورة فوتوغرافية يُعترف بها في عشرينيات القرن الماضي. مجموعتها الضخمة تضم أكثر من 9 آلاف صورة توثق بشكل مميز الحياة في المدن والقرى الفلسطينية، وتبرز تنوع السكان والفلاحين، ودور المرأة، والعادات والتقاليد المجتمعية بجميع تفاصيلها وأطيافها. ولا يزال عدد كبير من هذه الصور موجودًا في المراكز الثقافية والمعارض الفنية رغم محاولات السرقة والسطو التي تعرضت لها من قبل المحتل الإسرائيلي لطمس الحقائق التاريخية.

تفرد كريمة عبود كونها امرأة تمتهن التصوير الفوتوغرافي كأداة ثورية في تلك الحقبة الزمنية وتطور القضية الفلسطينية، كان يتوجب ظهور عيون فوتوغرافية نسائية جديدة، تتحدى الفجوة وحالة الركود النسائي المهني الذي يعود لأسباب متعلقة بالاحتلال وانتهاكاته المستمرة بحق كل ما هو فلسطيني، والعادات الثقافية المجتمعية ذات الطابع المحافظ التي تحصر التصوير كمهنة مقتصرة على الرجال دون النساء.

 

  

  

   

 

كسر القيود: المصورات الفلسطينيات في مواجهة التحديات


‍في ظل الاحتلال وانتهاكاته المستمرة، إلى جانب القيود الاجتماعية التي تنظر إلى التصوير كمهنة حكر على الرجال، كانت ممارسة النساء الفلسطينيّات للتصوير الفوتوغرافي تحديًا في حد ذاته. ومع ذلك، بدأت هذه الفجوة تنحسر تدريجيًا، لا سيما في قطاع غزة، حيث ولدت حركة نسائية جديدة في مجال التصوير الصحفي.

امرأة فلسطينية تحتفي بالحصاد

سمر أبو العوف: بين الألم والأمل

سمر أبو العوف مصورة فوتوغرافية غزية بدأت مسيرتها المهنية قبل 13 عامًا، استخدمت عدستها لتوثيق اللحظات التي تمزج بين الألم والأمل. في أعمالها تجسدت صور الدمار والقصف الإسرائيلي بوضوح، إلى جانب صور تسلط الضوء على الجوانب الإيجابية لحياة الغزيين من ضحكات الأطفال البريئة، وقصص نجاح النساء، والابتكارات الشبابية، ومشاهد من حياة الصيادين على البحر، بالإضافة إلى لقطات تفصيلية تمثل الحياة اليومية الواقعية.

كانت سمر من أوائل المصورات في غزة، وبداية تجربتها الفوتوغرافية كانت أشبه بالمعجزة، فحينها لم تكن تمتلك أي مقومات أو معدات تشجع على عملها غير موهبتها بالتصوير والتي كانت تظن أنها لا تكفي. ولكن هذه المعيقات لم تحدها عن ممارسة ما تحب، فعندما كان يلفت نظرها حدث معين تذهب مسرعة لاستعارة كاميرا أحد الزملاء لتوثيقه ونشره فورًا عبر صفحتها الشخصية على "فيسبوك". وخلال فترة معينة نجحت في تجميع مجموعة متنوعة من الصور أغلبها يجسد الحياة اليومية للمحاصرين، وفي يوم من الأيام تجرأت وشاركت في إحدى المسابقات وبالفعل حصدت جائزة الفوز مما دفعها لمكافأة نفسها بشراء كاميرا خاصة بها، تمثلت هذه الخطوة في تكريم لشغفها وتفانيها في مجال الفوتوغرافيا.

واجهت في بداياتها صعوبات تشبه التنقل في حقل ألغام وهذا ما جعلها دائمًا حذرة ومتيقظة، وتعمل بمهنية عالية لمواجهة أي انتقاد بشجاعة. والمجتمع الذي نشأت فيه ليس من السهل لومه لأنه كان لم يكن معتادًا على رؤية مصورة تتجول هنا وهناك لالتقاط الصور. ولكن طبيعتها القوية وعزيمتها الصلبة جعلتها لا تكترث لأي انتقاد سلبي، بل ساعدتها كثيرًا في الاستمرار وعدم الاستسلام.

تحاول سمر دائمًا الفصل بين عملها وواجباتها المنزلية كأم والموازنة بينهما بشكل يتلاءم مع كل منهما. ولكن عند تغطيتها للعدوان والتصعيدات المتكررة على القطاع تشعر وكأنها أمام مفترق طرق تعيش فيه مشاعر العاطفة والعقل للالتزام بمهمتها المهنية. ففي هذه اللحظات تفكيرها يدور حول ما إذا كانت ستعود إلى منزلها بسلام أم لا، أو ربما تخشى أن تكون مضطرة لتوثيق لحظة استشهاد أحد أفراد عائلتها. وهنا تتذكر ملامحها مجزرة عائلة أبو العوف التي كانت تقف يومها فوق الركام تنتظر خروج جثث أقربائها من تحت الأنقاض لتوثيق هذه المشاهد الأقسى التي تعرضت لها خلال مسيرتها المهنية كمصورة فوتوغرافية.

في قطاع غزة المحاصر يفتقر المصورون والصحفيون لأدنى مقومات الحماية الصحفية، وهذا ما دفع سمر خلال تغطيتها للمواجهات شرق غزة قبل سنوات إلى ابتكار زي صحفي من أدوات مطبخها فاستخدمت الطنجرة بدلاً من الخوذة وكيس نايلون مكتوب عليه كلمة "PRESS" كزي تعريفي بدلاً من واقي الصدر الأزرق. فإبداعها في عالم التصوير جعلها تحصد ما يقارب 17 جائزة عالمية تقديرًا لقطاتها الاستثنائية وليست وحدها، بل شاركتها زميلتها مريم أبو دقة في هذه الرحلة، حيث قدمت أعمالًا بصرية تعكس تجربة رائعة للمصورات الفوتوغرافيات في قطاع غزة.

صورة لسمر أبو العوف

مريم أبو دقة ودعاء الباز: قصص الصمود

المصورة مريم، الملقبة بـ "المغامرة"، هي أم وفوتوغرافية تخوض مغامرات تصوير لتوثيق المشاهد والأحداث من شمال غزة إلى جنوبها، بهدف بناء إرث صحافي بصري ذو طابع وطني يهدف إلى محاربة الرواية الإنسانية المخادعة التي يروج لها الاحتلال خاصة جرائمه ضد الأطفال وتدمير منازل السكان على رؤوسهم خلال عدوانه على القطاع.

تصطاد مريم الصورة الفوتوغرافية بحنكة لتحافظ على حياتها، ففي حال قتلت انتهت الصورة، وهذا لا يخدم القضية التي تناضل من أجلها. فالصور التي لا تحتاج إلى مخاطرة تلتقطها من مسافة بعيدة وأخرى تلتقطها من مسافة قريبة، والعامل الذي يحدد هنا هو نوع الصورة: جمالية، إنسانية، أو خبرية.

دعاء الباز مصورة ملهمة أخرى. انتقلت من مهنة الإدارة الصحية إلى التصوير الفوتوغرافي رغم معارضة عائلتها في البداية. مدفوعةً برغبتها في توثيق الحياة تحت الاحتلال، تسلط صور دعاء الضوء على الانتهاكات الإسرائيلية من منظور نسائي. وتهدف إلى محاسبة الاحتلال من خلال منصات حقوق الإنسان الدولية.ومن أصعب المواقف التي شهدتها عندما كانت توثق المواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي على الحدود الشرقية مع القطاع خلال فعاليات "مسيرات العودة" إصابة مجموعة من الشبان ومفارقتهم للحياة على الفور. وعندما بدأت في التقاط الصور لهم، اكتشفت أن شقيقها كان من ضمن الشهداء. كانت هذه لحظة معقدة، شعرت فيها بتضارب المشاعر بين إيقاف ما كانت تقوم به واحتضان شقيقها، أو مواصلة التصوير. كانت يديها ترتجف وصوتها يختنق من الصدمة، لكنها قررت الاستمرار في التصوير بشجاعة، حتى توقفت وبدأت بالبكاء بصوت مرتفع. هذه اللحظة من اللحظات التي لا تنسى، وتتذكرها دائمًا عندما تقوم بتصوير جنازات الشهداء وأوقات الوداع.<br><br>قوة وإصرار المصورات الصحفيات تجعلهن يستمرن ولا يتوقفن عن مهمتهن، حتى في ظل الضغوطات الأسرية التي تأتي من أهلهن بسبب القلق عليهن. هنا حكاية المصورة الفوتوغرافية دعاء الباز، التي انتقلت من مجال الإدارة الصحية إلى التصوير الصحفي. 

دعاء كانت لها رغبة قوية في ممارسة هذه المهنة، لكنها واجهت رفضًا من أسرتها، الذين كانوا يشعرون بالقلق على سلامتها كونها فتاة، فهي ستكون عرضة للمخاطر، وأن هذا النوع من العمل يناسب الشباب أكثر، رغم أن الاحتلال لا يفرق في استهدافه بين الفلسطينيين. فالتحدي الحقيقي هنا توثيق الانتهاكات الإسرائيلية التي تتعرض لها الكاميرا باستمرار كشاهد حقيقي.

ساعدها العمل التطوعي الذي أمضت سنوات فيه مع جمعية الهلال الأحمر في تشكيل رؤيتها وتطوير قدرتها على توثيق الأحداث بوضوح. خلال هذه الفترة، تعرضت لمشاهد مؤلمة للدم والقتل الإسرائيلي الممنهج للأطفال والنساء والرجال. هذه الخلفية المؤثرة دفعتها إلى استخدام عدساتها الفوتوغرافية من منظور نسائي لتوثيق جرائم الاحتلال وكشفها على الساحة الدولية، لمحاسبته دوليًا عبر المؤسسات الحقوقية وجذب دعمًا قويًا من جانب مناصري القضية الفلسطينية.

صورة لمريم أبو دقة

صورة لدعاء الباز

رغم ندرة المصورات الصحفيات مقارنة بعدد المصورين الصحفيين في فلسطين، إلا أن وجودهن أثبت أهميته في هذا المجال. فقدمن إسهامات قيمة وأحدثن تأثيرًا كبيرًا على مستوى المجتمع والمهنة في جوانب متعددة، مما ينبئ بظهور جيل جديد من صانعات المحتوى البصري الفوتوغرافي يضفي منظورًا أنثويًا على عالم التصوير ويعطي للصورة روحًا مختلفة.
تشير الدراسات إلى أن نسبة المصورات العاملات في ميدان الصحافة الفلسطينية تبلغ 17.6% فقط، بينما تصل نسبة المصورين إلى 82.4%. قد تبدو هذه النسبة قليلة، إلا أنها تعكس تطورًا إيجابيًا في المجال بالنسبة للواقع الذي تعيشه الفوتوغرافيات.

امرأة فلسطينية تحفظ طقوس الخَبز والتجذّر

امرأة فلسطينية تحتفي بالحصاد

غرس الزيتون بأيدٍ فلسطينية

* جميع الصور في هذا المقال مقدمة من الكاتب/ة.

عن الكاتب

دعاء شاهين - غزة

صحفية فلسطينية من قطاع غزة، مهتمة بتغطية جميع القضايا المتعلقة بالشأن الفلسطيني بشكل عام، والقضايا الإنسانية والاجتماعية والنسوية بشكل خاص.