التوثيق المرئي والمسموع والمكتوب: ثلاثة مشاهد من الرواية الفلسطينية

إننا نرفع أصواتنا باستمرار إلى عنان السماء، مؤكدين أن المعركة من أجل التاريخ هي ملحمة نضال من أجل حقوقنا. نواجه محاولات حثيثة لمحو وجودنا وتشويه تاريخنا وطمس ذاكرتنا الجماعية. يتجسد إصرارنا على البقاء في الصور التي نلتقطها، والرسومات التي نصنعها لوطننا، والمقابلات التي نجريها مع من عايشوا هذه الأحداث التاريخية. هذه القطع التوثيقية هي بمثابة تذكير قوي بكيفية سلب فلسطين منا.
بصفتي ناشطة نسوية وباحثة وناشطة فلسطينية، اخترت التركيز على المساهمات العميقة للنساء خلال فترتين أساسيتين: حقبة الانتداب البريطاني ونكبة عام 1948. وقد لعبت النساء القياديات والكاتبات أدوارًا محورية في هاتين الفترتين.
غموض الكفاح المسلح: كشف النقاب عن قصة "الأقحوان" في التاريخ الفلسطيني
تشبه الكتابة عن الكفاح المسلح الفلسطيني التعامل مع الجواهر الحساسة - فالمعلومات غالبًا ما تكون مجزأة، وتختلف الروايات من مصدر إلى آخر. ويتجلى ذلك في قصة "الأقحوان"، وهي منظمة تأسست في يافا عام 1948 أثناء النكبة.
يعتبر البعض أن "الأقحوان" مجموعة تقدم المساعدات الطبية للمقاتلين، بينما يعتقد البعض الآخر أنها كانت قناة لتهريب الأسلحة. وتمتد حالة عدم اليقين إلى تركيبة المنظمة - هل كانت مكونة من رجال ونساء، أم نساء فقط؟ وهناك أيضًا جدل حول هويات مؤسسيها، بما في ذلك الأدوار التي لعبتها الأختان موهبة وناريمان خورشيد.
في عام 2008، علمنا أن ناريمان خورشيد، إحدى الشخصيات الرئيسية وراء "الأقحوان"، كانت تعيش في القاهرة. واتخذت مع زميلتي رنين جريس، الباحثة في منظمة "ذكريات"، قرارًا بمقابلتها وتوثيق قصتها بالصوت والصورة.
ناريمان خورشيد "أنا الأقحوانة" - رحلة الشجاعة والتضحية في النضال الفلسطيني
بفضل الباحثة الفلسطينية السيدة أمل الآغا المقيمة في القاهرة، تمكنا من ترتيب لقاء مع ناريمان في منزلها. وعلى الرغم من التحديات الصحية التي تواجهها، رحبت ناريمان بنا، وقد تأثرت بحقيقة أننا سافرنا من المناطق المحتلة عام 1948 في فلسطين لرؤيتها.
وقد أعلنت ناريمان بفخر "أنا الأقحوان" عند مناقشة أنشطة المنظمة. وكشفت أنها قاتلت شخصيًا في الخطوط الأمامية حاملة السلاح. وسلطت شهادتها الضوء على الجهود التعاونية للرجال والنساء على حد سواء في النضال من أجل تحرير فلسطين.
استذكرت ناريمان "حادثة المنشية" التي قُتل فيها العديد من الرجال الفلسطينيين. لعب هذا الحدث المأساوي دورًا رئيسيًا في تأسيس "الأقحوان" وفي حياة ناريمان. كما شاركت قصاصات من الصحف وذكرت بفخر أنها كانت أول امرأة تقود طائرة بعد النكبة. ومن المثير للاهتمام أنها لم تتعلم قيادة السيارة على الرغم من حبها للطيران.

إعادة اكتشاف "لبيبة": إحياء ذكريات النساء الفلسطينيات خلال النكبة
في حزيران/يونيو 2022، وأثناء مراجعتي لأرشيفي، أعدت اكتشاف مقابلة كنت قد أجريتها في عام 2005 مع امرأة رائعة تُعرف باسم "لبيبة" (أم محمد الخطيب). كانت هذه المقابلة جزءًا أساسيًا من بحثي عن دور المرأة الفلسطينية خلال النكبة.
قدمت قصة لبيبة المسجلة في مجد الكروم رؤى فريدة من نوعها حول تجارب النساء خلال النكبة. كان لشهادتها تأثير دائم عليّ، وقد شاركت التسجيل مع حفيدتها ديما.
عندما استمعت لبيبة للمقابلة بعد 17 عامًا، عادت ذكرياتها عن النكبة. بدأت في سرد الأحداث المروعة التي وقعت في ذلك الوقت - القتل الجماعي والهجرة القسرية إلى لبنان وعودتها إلى فلسطين. كانت هذه اللحظة بمثابة تذكير بأهمية التاريخ الشفوي في الحفاظ على الذاكرة الشخصية والجماعية.

أمة باقية: توثيق صمود فلسطين من خلال الفن
في أيار/ مايو 2023، افتُتح معرض "وطن باقٍ" في جمعية الأسوار في عكا إحياءً لذكرى يوم النكبة. ضم المعرض صوري ورسوماتي التي وثّقت القرى والمدن الفلسطينية المهجّرة من سكانها.
وفي حين أن الكثيرين قد صوّروا هذه المشاهد من قبل، إلا أن أعمالي الفنية هدفت إلى تقديم منظور جديد. لقد سعيت إلى تصوير كل من الدمار والجمال الدائم للأرض من خلال لوحاتي، لإظهار قدرة فلسطين على الصمود.
جذب المعرض اهتمام وسائل الإعلام أكثر مما كنت أتوقع. وقد أثار فضول الكثيرين اسم "أمة باقية". من خلال عملي، نقلت من خلال عملي أنه على الرغم من الدمار الذي لحق بالقرى والمدن، إلا أن عناصر الجمال والأمل لا تزال قائمة. فالأشجار والأزهار التي كانت مدفونة تحت الأنقاض، وجدت طرقاً للنمو من جديد، ما يرمز إلى صمود الشعب الفلسطيني.


الرواية الفلسطينية هي نسيج معقد منسوج من الذكريات الشخصية والتاريخ الشفوي والتعبيرات الإبداعية. من خلال قصص نساء مميزات مثل ناريمان خورشيد ولبيبة، يمكننا أن نرى مدى تشابك حياتهن مع النضال الأوسع للهوية والتاريخ الفلسطينيين. وسواء من خلال المقاومة المسلحة أو الشهادات الشخصية أو الإبداع الفني، فإن هؤلاء النساء قد شكّلن الرواية التي تتحدى المحو والتشويه.
يسعى عملي كباحثة وناشطة وفنانة إلى الحفاظ على هذه الأصوات والارتقاء بها. إن معرض "أمة باقية" والقصص التي جمعتها ليست مجرد تسجيلات للماضي، بل هي شهادة على صمودنا الجماعي والأمل الدائم بأن فلسطين، رغم كل الصعاب، ستبقى حية في قلوبنا وذاكرتنا وفننا.
* جميع الصور في هذا المقال مقدمة من الكاتب/ة.

عن الكاتب
جنان عبده - فلسطين المحتلة
محامية وناشطة حقوقية نسوية، تركز بشكل خاص على حقوق الإنسان وحقوق السجناء. درست القانون، وحصلت على درجتي البكالوريوس والماجستير خلال سنوات سجن زوجها. يدور عملها وتخصصها حول الانتهاكات والتعذيب أثناء الاحتجاز والاستجواب والسجن. ساهمت في تأسيس وإدارة العديد من المنظمات المدنية وقدمت إسهامات بحثية. وهي مؤلفة كتاب "المنظمات النسائية والنسوية الفلسطينية في مناطق 1948".