subdirectory_arrow_right
رجوع

التوثيق البصري، المسموع والمكتوب

جنان عبده - فلسطين المحتلة

نصرخ دائماً في سماء الزمن، لنؤكد أن المعركة على التاريخ هي معركة ملحمية على الحق، ونواجه المحاولات الدائمة لمحو وجودنا، وتجاويف تاريخنا، ونسيان ذاكرتنا الجماعية بإرادتنا القوية في البقاء على قيد الحياة، من خلال الصور التي نلتقطها أو نرسمها للمكان، والمقابلات التي نجريها مع من عاشوا هذه الأحداث، وتحويلها إلى وثائق تاريخية تحكي لنا كيف سُرقت منا فلسطين.

وكباحثة وناشطة نسوية فلسطينية، اخترت طريقاً مليئاً بصدى الأصوات النسائية التي كتبت تاريخاً لا يُنسى. خلال زمنين بارزين: فترة الانتداب وأحداث النكبة عام 1948، كان للقياديات والكاتبات النسائيات الأجزاء الأكثر إثارة في هذه الحكايات.

غموض الكفاح المسلح: كشف قصة "الأقحوان" في التاريخ الفلسطيني

الكتابة عن العمل الكفاحي النسائي المسلح جوهرة نادرة، ومعلوماتها ضبابية الوضوح، تختلف من مصدر إلى آخر. واقع يعكسه تعريف تنظيم "زهرة الأقحوان" الذي انطلق في يافا عام النكبة. فمنهم من اعتبره تنظيماً قام بتقديم المساعدات الطبية للمقاتلين، وآخرون وصفوه كجمعية قامت بحمل السلاح. وما يزيد من هذا التعقيد هو تباين المصادر حول تأسيسه: هل كان تجمعاً من الرجال والنساء؟ أم أنه تألف فقط من النساء؟ كما يلقي التاريخ أيضاً ضوءاً متبايناً على هوية مؤسسيه ودور الأختين مهيبة وناريمان خورشيد.

تلك القصص الواقعية تظهر لنا غموضاً لا ينكره التاريخ، لكن هذا الغموض لم يستمر طويلاً. فعندما وصلت إلينا أخبار في عام 2008 بأن ناريمان خورشيد، مؤسسة "زهرة الأقحوان"، تقطن في القاهرة، اتخذنا قراراً غير متردد بالانطلاق إليها، أنا وصديقتي رنين جريس، الباحثة في مؤسسة "ذاكرات"، لإجراء مقابلة معها بالصوت والصورة.

In 2008, we learned that Nariman Khuarshied, one of the key figures behind "The Chrysanthemum," was living in Cairo. Along with my colleague Raneen Jeries, a researcher at the Zakarat organization, I made the decision to meet her and document her story both visually and audibly.

نريمان خورشيد: "أنا زهرة الأقحوان"—رحلة شجاعة وتضحية في النضال الفلسطيني

نسقت السيدة آمال آغا، وهي باحثة فلسطينية من سكان القاهرة، موعد المقابلة مع المناضلة ناريمان في منزلها. وعند لقائها، أكدت لنا أنها تعاني من وعكة صحية، وعلى الرغم من ذلك وافقت بكرم على لقائنا وأبدت تأثرها من كوننا فلسطينيات من أراضي عام 1948 المحتلة، جئنا لمقابلتها خصيصاً. وربما كان هذا هو السبب الذي جعلها توافق على تسجيل المقابلة بالفيديو. وقد يكون تقدمها في العمر ورغبتها في توثيق صوتها وصورتها سبباً آخر لترك بصمة تاريخية لا تزول أبداً.

وعندما تحدثنا معها عن "زهرة الأقحوان"، ببساطة أجابت: "أنا زهرة الأقحوان". وبفخر وجرأة فدائية، استجابت لاستفساراتنا حول نشاطاتها، وأوضحت لنا أنها كانت تخوض الجبهة بنفسها، حاملة السلاح بيديها الناعمتين. كانت هذه الكلمات تعكس تصميمها واستعدادها للقتال من أجل القضية الفلسطينية، وأكدت على وجود رجال في التنظيم، مما يُلقي الضوء على تضافر جهود الجميع في سبيل تحقيق أهدافهم.
الذاكرة التي حملتها ناريمان كانت كأنها لوحة فنية مرسومة بتفاصيل واضحة في بعض الجزئيات وغامضة لا تريد الحديث عنها في أخرى. فمن خلال حديثها فهمنا أنه منذ انتقالها للعيش في مصر وزواجها، تجنبت طرح أمور سياسية قد تضرها وعائلتها، وركزت على تربية أطفالها وتعليمهم.

تذكرت نريمان "حادثة المنشية"، التي قُتل فيها العديد من الرجال الفلسطينيين، وهي حادثة لعبت دورًا أساسيًا في تأسيس "الأقحوان" وفي تشكيل مسار حياتها. كما عرضت علينا قصاصات صحفية، وأخبرتنا بفخر أنها كانت أول امرأة تطير بطائرة بعد النكبة، رغم أنها لم تتعلم قيادة السيارات رغم حبها للطيران.

جنان عبده في حوار مع ناريمان خورشيد

إعادة اكتشاف "لبيبة": إحياء ذكريات النساء الفلسطينيات خلال النكبة

في يونيو 2022، أثناء مراجعة أرشيفي، وجدت مقابلة كنت قد أجريتها عام 2005 مع امرأة استثنائية تُعرف باسم "لبيبة" (أم محمد الخطيب). كانت هذه المقابلة جزءًا أساسيًا من بحثي حول دور النساء الفلسطينيات خلال النكبة.

قدمت قصة لبيبة، التي سُجلت في مجد الكروم، نظرة فريدة على تجارب النساء خلال النكبة. كان لشهادتها أثر دائم عليّ، وشاركت التسجيل مع حفيدتها ديما.

عندما استمعت لبيبة إلى المقابلة بعد 17 عامًا، استُعيدت لها ذكريات النكبة بوضوح. بدأت تسرد الأحداث المروعة التي شهدتها—عمليات القتل الجماعي، والتهجير القسري إلى لبنان، ثم عودتها إلى فلسطين. كانت هذه اللحظة تذكيرًا قويًا بأهمية التاريخ الشفوي في حفظ الذاكرة الشخصية والجماعية.

لبيبة

أمة باقية: توثيق صمود فلسطين من خلال الفن

في مايو 2023، افتُتح معرض "أمة باقية" في مؤسسة الأسوار في عكا لإحياء ذكرى النكبة. ضم المعرض صوري ورسوماتي التي وثقت القرى والمدن الفلسطينية المهجرة.

على الرغم من أن العديد من المصورين وثقوا هذه المشاهد من قبل، إلا أنني سعيت إلى تقديم منظور جديد من خلال فني. حاولت التقاط الدمار والجمال المتجذر في الأرض من خلال لوحاتي، مسلطًا الضوء على صمود فلسطين.

حظي المعرض باهتمام إعلامي أكبر مما كنت أتوقع. تساءل الكثيرون عن معنى الاسم، "أمة باقية". من خلال أعمالي، أوضحت أنه رغم تدمير القرى والمدن، إلا أن عناصر الجمال والأمل لا تزال قائمة. الأشجار والزهور التي دفنت تحت الأنقاض وجدت طريقها للنمو من جديد، رمزًا لصمود الشعب الفلسطيني.

الرسم من معرض "أمة باقية"
صورة فوتوغرافية من معرض "أمة باقية"

السردية الفلسطينية نسيج معقد من الذكريات الشخصية، والتاريخ الشفوي، والتعبير الإبداعي. ومن خلال قصص نساء متميزات مثل نريمان خورشيد ولبيبة، يتضح مدى ارتباط حياتهن بالنضال الأشمل من أجل الهوية والتاريخ الفلسطيني.

سواء عبر المقاومة المسلحة، أو الشهادات الشخصية، أو الإبداع الفني، فقد شكلت هؤلاء النساء سردية تتحدى المحو والتشويه.

كباحثة وناشطة وفنانة، أعمل على توثيق هذه الأصوات وإعلائها. معرض "أمة باقية" والقصص التي جمعتها ليست مجرد سجلات للماضي، بل هي شهادة على صمودنا الجماعي، والأمل الذي لا يزال نابضًا بأن فلسطين، رغم كل الصعاب، ستظل حية في قلوبنا وذاكرتنا وفننا.

* جميع الصور في هذا المقال مقدمة من الكاتب/ة.

عن الكاتبة

جنان عبده - فلسطين المحتلة

A lawyer and feminist human rights activist, particularly focused on human rights and prisoners' rights. She studied law, obtaining both a Bachelor's and Master's degree during the years of her husband's imprisonment. Her work and specialization revolve around violations and torture during detention, interrogation, and imprisonment. She contributed to the founding and management of several civil organizations and has made research contributions. She is the author of the book "Palestinian Women's and Feminist Organizations in the 1948 Areas."